السلآم عليكم ورحمة الله وبركآته
حبـآيبي ..هذي قصه حقيقيه لصديق ابوي الله يرحمه
اتمنى انكم تقرونهآ وتدعون لهـ
ترويهآ بنتهـ جمآنه وهي اكبر اخوآنهآ ,,تقول :
سجيل المشاعر وتصويرها ..
له نكهة يحبها كثير من الناس ..
كيف وإن كانت صادقة بحجم الجُرح الذي طُعِنَت به !!
...
نثرت لكم بعضاً من أحاسيس اختزنتها نفسي ..
عند فقدي لأحد عينيّ التي أبصر بها مُتَع الحياة ..
والدي حبيبي ..
نسجت أجمل ما أملك من حروفٍ لأجله ..
في قالب قصصي .. هو كما وقع ..
لتعلموا أن الله تعالى .. رحيم بعباده في كل الأحوال ..
وإن صعُبت الظروف .. وضاقت الحيل ..
ولتنطلق ألسنتكم .. ولو بدعوة واحدة لأبي المرحوم .. وأمي المكلومة ..
وإخوتي الفاقدين .. ونفسي الحائرة ..
لكن قبل أن تبدأوا بقراءة الحرْف ..
ضعوا في أذهانكم .. واكتبوا نصب أعينكم ..
أن ما حصل كان اختيارٌ من الله .. ونحن عبيده ..
وتحت يده ..
وهو الرحيم الحكيم سبحانه ..
رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
إذا أردت أن تعلم ما العجز ؟ فاكتب عن والدك .. !
.....................
حكــــــاية الألــــــــم ( 1 )
بسم الله الرحمن الرحيم
سأحكي لكم حكاية الألم .. حكاية الفقد .. حكاية ملؤها الحزن والضيق ..
وثمرتها الصبر والرضا .. نعم .. حزن أثمر رضا .. أرأيتم فضل دينكم ؟
... ...
أتيت إلى الدنيا .. وأنا أحمل اسماً طالما افتخرت به .. !
عشت حياةً هادئةً هنية .. مليئةً بالحب والحنان .. وسط أبوين رقيقين فاضلين .. أحببتهما كأشد ما يعشق ولد والداه ..
من فضل الله علي .. أنني الكبرى بين إخوتي .. ولذا كان لطفولتي مذاق خاص لدى والديّ .. كما يقول لي أبي دوماً ..
كبرت وكبرت معي أحلامي وآمالي .. لم أكن أهتمّ لأحد غير والديّ ..
إن ضاقت بهما الدنيا مرةً .. فإن قلبي يكاد ينفطر لأجلهما ..
وإن شكا أحدهما ألماً .. فروحي تكاد تنفصل همّاً لهما ..
لا زلت أتذكر ما حصل قبل سنتين .. الأشهر التي كان فيها والدي طريحاً للفراش .. كنت أحترق في داخلي .. وأشعر بأحشائي تتمزق .. حين أرى وجهه يعتصر ألماً .. وأحاول الوقوف شامخةً أمامه وأمي وإخوتي .. وما إن أصعد إلى غرفتي .. حتى أنهار من البكاء .. !
وشاء الله عز وجل .. وقام من فراشه ببعض من الآلام .. والتي كانت تلازمه في كل وقت .. !
لم نفتر عن الدعاء له ووالدتي .. لكن حكمة الله تعالى فوق كل شيء ..
فقد قرّر والدي الغالي .. إجراء عملية لإزالة الانزلاق الغضروفي في ظهره ..
ومن هنا .. سأحكي لكم تفصيلاً أرجو أن تتحملوه ..
أول مرة ذكر لنا والدي أنه يفكر في إجراء العملية .. صُدمت بقوة .. !
أنا أريد الراحة له .. لكني في نفس الوقت .. أحبه .. وأخشى فقده .. !
وكأن الفقد لا يكون إلا في المشفى .. !
لكن هذا الإنسان .. وهذه عاطفته ..!
دعوت الله له من كل قلبي .. أن يصرفه إلى ما فيه الخير والصلاح ..
وكنت جاهدةً أحاول تذكير نفسي .. بأن المكتوب واقع .. ولا فائدة من الهمّ .. !
وحين كنا معه في السيارة يوماً .. قال : بأنه قرر قراراً جازماً بإجرائها .. والطبيب شجعه عليها .. لكنه ينتظر عودته من الخارج ..
فسألته : هل فيها خطورة ؟ وكم نسبة نجاحها ؟
أخبرني أن الكثيرين يعملونها .. وترتاح أجسامهم بعدها .. وأن نسبة نجاحها فوق 90% .. والله الشافي سبحانه ..
سكت على مضض .. وأنا أتمنى من كل قلبي أن ينصرف عنها ..
... ...
وفي يوم السبت الموافق 26/3/1431هـ جاءت إلي والدتي –حفظها الله- وأخبرتني بأن المستشفى اتصلوا على والدي يبلغونه بأن يوم الأربعاء هو يوم إجراء العملية له .. !
تضايقت .. جدّاً .. وتخدر جسمي وَجِلاً حين نقلت إلي الخبر .. لكني سلمت أمري لله ..
وفي اليوم التالي .. وبعد العشاء .. دخلت الصالة وإذا بأبي جالس فيها وأخواتي .. وبيده التقويم يقلبه .. رفع رأسه ونظر إلينا .. وقال : 1/4 تاريخ مميز .. !! يقصد تاريخ دخوله المشفى طبعاً ..
قالت والدتي : يا ليتهم يؤجلونها .. فقلت : إن تأجلت فهي الخيرة .. التفت إلي طالباً مني إعادة ما قلت .. ثم نظر إلي بابتسامة .. وقال هامساً على مضض : صحيح .. ! وكأنه لا يريد وقوع ما نريد ..!
كثيراً ما كرر لنا في هذا الأسبوع أن يوم الأربعاء هو يوم الراحة بالنسبة له ..!
... ...
جاء يوم الأربعاء الذي لا ينسى .. !
استيقظت من نومي وهمّ والدي لم يفارقني لحظةً .. !
وبعد أن صليت الظهر .. أخذت كتاباً ابتعته قبل أيام ؛ للشيخ سلمان العودة , بعنوان : (مع الله) ..
ونزلت للصالة .. وأنا أريد استقبال أبي حين يعود من عمله ..
انتظرت إلى أن دقت الساعة الثانية أجراسها .. ودخل الحبيب على عادته .. منادياً لريم ..
سلم علي .. ووجهه مستبشر ومبتهج .. سأل عن والدتي وإخوتي ..
وسألته عن موعد ذهابه .. وهل سيرتاح قليلاً ؟!
فأجابني : لا .. سأغتسل .. ونذهب للمشفى أنا وعاصم .. لا وقت للراحة .. !
وبالفعل .. اغتسل .. وتطهر .. وسلم على والدتي .. ودخل على رند وأيقظها من نومها يريد توديعها .. أرادت أن تقبل رأسه فقبل هو رأسها .. فأنزلت نفسها ليده فسبقها ليدها وقبلها .. ثم دخل على رزان وودعها وهي نائمة .. ونزل في الساعة الثانية والنصف أو تزيد .. وأنا أنتظره .. أريد توديعه قبل ذهابه .. !
وضع أغراضاً كانت بيده .. وأراني ورقةً وهو يقول : أوصلوها إلى فلانٍ من الزملاء .. وكأنه لن يعود حتى يوصلها هو ..!
وحين أراد الخروج سلمتُ عليه مقبلةً رأسه ويده .. وهو يقول : الله يكرمك يا بنيتي .. وابتسامته قد أنارت وجهه وهو ينظر إلي نظرةً رأيتُها نظرة مودّع ..!
أي والله هذا ما جاء في نفسي ..!
أحاطته ريم بذراعيها .. وضمته بقوة .. فضمها أكثر .. وسمعُها على بطنه وهي تقول : بطنك جائع ..!
ضحك من قولها ونظر إلي وهو يقول : بعذري يا بنيتي ما أكلت شيئاً من الساعة العاشرة .. !
ثم .. خرج .. وما لبث أن عاد ..!
وصعد الدرج وهو يقفز بعضه .. وأنا متعجبة من نشاطه المفاجئ .. إذ لم يكن هيناً عليه لهذه الدرجة ..!
هربت إلى المجلس .. وأنا أدافع العبرة .. ولا أريد رؤيته وهو يخرج ..
ثم عدت إلى كتابي وأنا أطرد ما تأكد في نفسي ..!
... ...
مرت علينا الساعات ثقيلةً صعبة .. إلى أن أرسل لنا عاصم في الساعة الخامسة والثلث يقول :
(دخل الوالد الآن غرفة العمليات..
دعواتكم له..)
رسالة صعبة .. لا أستطيع وصف المشاعر تجاهها .. !
استودعته الله من كل قلبي .. ولساني لا يفتر عن الدعاء له .. !
وبعد ساعتين ونصف .. أي في الساعة الثامنة إلا ربع تقريباً .. اتصلت بعاصم لأن الغالي يُفترض أن يكون قد خرج من غرفة العمليات إلى غرفة الإفاقة بناءً على كلامهم ..
لم يرد علي .. فاتصلت ثانية .. وثالثة .. وقلبي يكاد يخرج من مكانه ..
قلت : لعله يصلي ..
فاتصلت على المشفى .. وأنا في قمة الاضطراب .. لم أجد تجاوباً معي ..
إلى أن وصلت الدقائق .. الخمسة عشر بعد الثمان .. فاتصل عاصم .. وصوته مستبشر .. يقول بأن حبيبنا خرج إلى غرفة الإفاقة .. والعملية ناجحة ولله الحمد ..
ذرفت دموعي بشدة .. وسرت مسرعةً أبشر والدتي وأخواتي ..
انتظرنا إفاقته بفارغ الصبر .. لكن لم يأتينا خبر بهذا ..
خرجنا من المنزل الساعة التاسعة .. ونحن نحمل في أيدينا .. ما أوصانا به والدنا .. القميص الأبيض الذي يحبه .. شاحن الجوال .. علاقة للثياب ..
في السيارة .. اتصل عاصم يبشرنا بأنه أفاق .. وكانت الساعة التاسعة والربع .. لكنهم لم يحضروه إلى الغرفة .. زاد اطمئناني .. ولله الحمد ..
وحين وصلنا للمشفى .. دخلنا الغرفة المخصصة .. ونحن ننتظر قدومه إلينا ..
ومن هنا بدأت حكاية الألم .. !
... ...
فتحوا باب الغرفة على مصراعيه .. وأدخلوا سريراً يحمل أغلى إنسان لدينا .. في الساعة العاشرة إلا ثلث ..
موقف صعب .. عسِر .. مُذهل .. مُبكي .. مُدمي .. صفوا كيف شئتم ..
حكـــــــايـــة الألـــــــــم ( 2 )
فتحوا باب الغرفة على مصراعيه .. وأدخلوا سريراً يحمل أغلى إنسان لدينا .. في الساعة العاشرة إلا ثلث ..
موقف صعب .. عسِر .. مُذهل .. مُبكي .. مُدمي .. صفوا كيف شئتم ..
حين رأت أعيننا الحدث .. حبيب مسجّى .. لا يملك أي قوة .. وهم ينقلوه من سرير إلى آخر .. !
لم تتحمل أخواتي المنظر فبدأن بالبكاء بصوت عال ..
بدأت أهدؤهن .. خشيةً من أن يضيق صدر والدي لأجلهن ..
ثم .. تقدمت والدتي للسلام عليه .. أتيت بعدها .. فتح عينه ونظر إلي وقال : هلا ببنيتي .. قبلت رأسه .. ولساني لا يستطيع النطق .. لأن دمعتي مربوطة معه ..!
سلمَت عليه أخواتي وأخي ..
وجاءت الممرضة تطمئن عليه .. ثم قالت : نبضات القلب ممتازة .. الحرارة ممتازة .. الأكسجين ممتاز .. لكن الضغط منخفض ..!
بصراحة لم أكن أعلم خطورة انخفاض الضغط وسببه .. وأرجو أن لا أعلم مرةً أخرى .. !
... ...
بدأت أمي بالقراءة عليه ..
وكان يستيقظ مرةً .. ويفقد وعيه مرات .. وفي إحداها .. أذكر أنه فتح عينه .. وكنت وأخي عاصم وأمي فوق رأسه .. فقال : كم الساعة ؟ قلنا : عشر .. قال : لم أصلّ المغرب ولا العشاء .. متى ينتصف الليل؟
قلنا : لا زال في الوقت بقية .. ارتح فقط ..
ومرة .. فتح عينيه .. ونظر إلى ريم مبتسماً .. ثم قال : هل شربت دواءها ؟!!
لا تعجبوا .. هذا أبي .. وهذه حنيته .. يحب أبناءه لدرجة أن ينسى ألمه أمامهم ..!
... ...
الممرضون .. يدخلون ويخرجون .. وفي وجوههم بعضٌ من القلق .. !
أنا لا أحب الغوص في الوساوس .. ولذلك فإنني أقول لنفسي كل لحظة : مجرد اطمئنان .. هذا شيء طبيعي .. وما أدراكِ أنت بعملهم .. !
كان ضغطه يرتفع فجأة .. وينخفض فجأة أخرى .. لكن أعلى ما وصل إليه أربع وثمانون .. وأقل ما عانى منه فوق الثلاثين .. !
ضربوه عدداً من الإبر .. وحين أتى طبيب التخدير ليضربه أول إبرة .. لم يجد عرقاً ليطعنه به .. !
فداه نفسي .. اختفت عروقه ..
استيقظ مرةً وكنت على رأسه أنا وعاصم .. نظر إلينا ثم قال : الساعة العاشرة والنصف ؟ تأكد عاصم من الساعة , وقال : نعم .. وهو يقول لي : ما شاء الله أبي كما هو في دقته ..
قال لنا : لا تفوتني الصلاة .. أريد أن أصلي ..
وحين أتى الطبيب إليه .. قال له : دكتور أريد الصلاة .. سأتوضأ .. رد عليه : لا تستطيع الوضوء يا عبدالله نحضر لك تراب وتتيمم .. قال : لا بل أستطيع .. !
ثم .. فقد وعيه ..
هم الصلاة لم يفارقه أبداً .. حتى وهو في أضيق الظروف ..
فتح عينه مرةً .. والتفت عن يمينه فرأى أمي .. ثم عن يساره .. فرأى عاصماً .. فقال : أين البنات ؟
أين ريم ؟ أتت إليه ريم .. وهي الصغيرة لم تتحمل الموقف .. وكانت تقف ورائي في أغلب الوقت .. تقول : ما أبغى أشوف أبوي كذا .. !
وحين وقفت بجانبه .. ابتسم لها .. ومد يده إليها .. وقال : تعالي بجانبي .. رفضنا صعودها إليه خوفاً من أذيته .. ثم قال : وأين رند ؟ جاءته وسلّم عليها .. وقال : أين رزان ؟ ففعل معها الفعل ذاته .. ثم قال : أين جمانة ؟ أتيت إليه .. فمد يده إلي .. صافحته .. وقبلتها .. وضغطت عليها قليلاً أريد تدفئتها من شدة برودتها ..
وحتى .. أملأ نفسي من حنانها .. !!
هل تريدون أن أخبركم .. بأن هذا هو الوداع الأخير .. مع حبيبي وقرة عيني .. وروحي التي بين أضلعي ؟!
نعم .. هذا آخر ما بيننا .. وكأنه أوقفنا جميعاً حوله .. ليقول لنا : قفوا مع بعضكم دائماً .. أريد أن أرحل والعُرى بينكم غليظة .. !
ايهٍ .. يا أب ..
بعد هذا الموقف بقليل .. وحين رأينا أنه لا جدوى من جلوسنا .. لأن حركتنا أربكت طاقم التمريض ..!!!
استودعناه ربنا .. وخرجنا إلى بيتنا بعد ساعتان ونصف تقريباً من الإحاطة به ..
مشاعرنا لم أصفها لكم في هذا الليلة .. ولن أصفها .. لأني لا أستطيع .. لا أستطيع أبداً .. !
الحكاية تزداد تعقداً .. ولذا فإن عباراتي ربما تكون كذلك أيضاً .. سامحوني .. أنا أحكي عن أبي .. أتعلمون ما معنى أبي ؟!! .. إذن التمسوا لي العذر إذا أذنتم ..
... ...
دخلنا البيت .. وهاتفنا عاصم .. نسأله عن الوالد .. أخبرنا بأن الوضع كما هو .. ويُرجى له التحسن ..
ذهب كلّ إلى فراشه .. وهو يحمل أطناناً من الهم ..
كنتُ متضايقة إلى حد الثمالة .. فأخرجت دفتري .. لأريح خاطري من بعض الألم ..
وما أن اضطجعت على فراشي .. في الساعة الواحدة والربع .. إلا ويرن جوالي .. قلت : اللهم لا طارقاً يطرق إلا بخير .. رأيت الرقم فإذا هو عاصم .. رددت عليه .. وأنا في قمة الخوف ..
سألته عن والدي مباشرة , فقال : على وضعه .. لا تنسوه من دعواتكم .. !
أقفل الخط .. ليتصل مباشرة .. ويقول : جمانة أنت عندك أحد ؟!!
قلت : لا ..
قال في تلكؤٍ بعض الشيء : أبي أخذوه للعناية ..
صُدمت : لماذا ؟ هل حصل شيء ؟
قال وهو يدافع عبرته : لا .. سيطمئنون فقط .. للرعاية الزائدة لا أكثر ولا أقل .. !
أرجوك ادعي له .. !
تخدر جسمي بأكمله .. ورجفت عظامي .. واعتراني برد شديد ..
الآن وأنا أكتب لكم ذلك أشعر بأن عظامي قد ذابت .. كيف بحالي حين تلقيت أصعب خبر في حياتي .. أسأل الله الرحيم .. أن لا أسمع أصعب منه ..
قمتُ وأنا أطمئن نفسي كالعادة .. !
وبعد مضي عدد من الدقائق .. بدأت الوساوس تجتاحني .. فاتصلت بعاصم لأقول له : أسألك بالله هل في والدي شيء تخفيه ؟!
قال : جمانة .. سأقول لك كل شيء .. وأنت بالذات لن أخفي عنك أي شيء .. !
قلت : هات .. واحتمل يا قلب ..!
ليُفاجأني : أبي عنده نزيف داخلي .. !!!
حروفي تتبعثر أمام هذا الخبر .. لكني أبشركم أني استقبلته بنفس هادئة .. سكينة ورحمة من الرحيم الرحمن ..
اتجهت إلى القبلة .. لأتضرع لمن بيده الحول والقوة ..
ومن الطريف المُبكي ؛ أني كنت أدعو : اللهم يا ولي نعمتي , ويا ملاذي في كربي , اجعل ما نخشاه من نزف والدي برداً وسلاماً عليه , كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم ..
فيهتف هاتف في نفسي : ربما يكون البرد والسلام على أبيك .. هو قبض روحه ..!!
ثم كأني أتراجع عن الدعاء قليلاً .. وأعود له مذكرة نفسي بأن قضاء الله حاصل .. وهو الحكيم العليم الرحيم سبحانه ..
عشتُ ساعات من الكُرَب كأشد ما تكون الكُرَب ..
ليس لي حول ولا قوة ..
أتمنى إخراج دمي كله لوالدي ..
أتمنى فداه لو كان ذا بيدي ..
لكن ما نقول إلا :
الحمدلله على كل حال ..
رضينا بقدر الله ..
وحين بزغ فجر ذاك اليوم .. لم يكن مضيئاً كعادته .. وكأن الليل لم يودعنا .. بل ازداد سواده .. واشتدت ظلمته ..
كنت أحمل هماً آخر .. وهو : كيف ستعلم جدتي بما حصل لفلذة كبدها .. !
لم يخبرها عن دخوله العملية .. حتى لا يضيق خاطرها لأجله .. !
هو أبي .. يحافظ على ابتسامة أمه .. حتى وإن آل إلى أحلك الظروف ..
وإن كان في أشد الحاجة لدعائها له ..
لا يريد لقلبها الغم .. ولا لخاطرها الهم ..
اسعدي يا جدتي بهذا الولد الخلوق .. !
...
وهم مُكلفة به أنا وهو : تبليغ والدتي بما حصل .. لأني أخفيته عنها عُنوةً لترتاح قليلاً ..
ولكن .. يبدو أنها كانت راقدة على جمرٍ مُحرقٍ ..
فقلبها المحب الرقيق .. لا يحتمل مثل هذه المواقف .. !
...
دخلتُ عليها بعد أن استجمعت كل شجاعتي .. وحين رأت وجهي علمت بأن ورائي خبراً صعباً ..
قلت : والدي تعب قليلاً ..
بادرتني مباشرة : هو في العناية ؟
قلت : نعم .. احتاج بعضاً من الرعاية , فنقلوه إليها ..
وقع الخبر عليها كالصاعقة الفاجعة ..
ووضعت يدها على قلبها في تصبرٍ .. واسترجعت .. ثم التفتت إلي بهمسٍ تقول : هو حي ؟
اندهشتُ وخفت : نعم يا أمي حي .. لا تخافي .. لن يحصل غير المكتوب ..
ربما توقّعها من البداية بموته .. خفف عنها مصيبة دخوله العناية ..
الحمدلله .. الحمدلله ..
... ...
مضت بعض الدقائق .. ووالدتي في بكاءٍ ودعاء ..
هاتفتُ عاصماً أخبره برغبة أمي في زيارة والدي .. رفض رفضاً قاطعاً .. وهو يخاف من عدم تحملنا رؤيته وهو مسجّى تحت الأجهزة .. !
استسلمَتْ أمي في بادئ الأمر .. ثم فزعت إلى عباءتها وهي تقول : سأذهب سأذهب ولا تقولي لعاصمٍ شيئاً .. لبستُ عباءتي وراءها مسرعةً .. وانطلقنا إلى المشفى ..
وصلنا إلى غرفة والدي في قسم التنويم .. تأثرنا أكثر .. كيف أنه كان هنا قبل ساعات .. !!
وفجأة ..
حُمل إلى مكان أكثر عناية .. لأن وضعه أكثر خطورة ..
نتيجة خطأ طبي أدى إلى ثقب شريان ووريد ..
حدث من جرائه نزيف في البطن .. !
الحمدلله على كل حال ..
أخبرتُ عاصماً بقدومنا .. تضايق قليلاً .. ثم قادنا إلى ... العنــاية ..
وهناك .. وجدنا عمي أحمد واقفاً حوله ..
دخلنا ببكاءٍ مكتوم .. ورأينا ما لا تطيق العين رؤيته ..
حبيبٌ غالٍ .. أبٌ حنون ..
فوق سرير أبيض ..
حوله طاقم طبي ..
أدخلوا جميع ما يجيدون من أجهزةٍ .. في جسمه النحيل ..
وعيناه العسليتان .. مغطاةً بشاشٍ أبيض ..
وكأنهم يخبرونا .. بأن نظرته الرائعة .. الحنونة .. المُداوية ..
لن ترانا أبداً .. أبداً .. أتعلمون ما معنى أبداً ؟؟!!
أبدية دنيوية بالتأكيد .. وإلا فلقاء المؤمنين في الجنات .. وهو ما يجعل قلب المؤمن صابراً محتسباً ..
وقعت عيني على جهاز القلب .. وهو يصيح كل بضع ثوانٍ ..
رأيت حركة قلب والدي حبيبي ..
لكن قلبي الذي بين أضلعي .. انعصر .. حين رأيت الجهاز .. لا أعلم لماذا ؟!! .. ربما .. الخوف .. من النهاية .. !!
الحمدلله ..
قرأتُ عليه ووالدتي بضع آيات .. ممزوجةٍ بالعبرات والدمعات ..
حتى أخرجونا .. لننظر له النظرة الأخيرة ..
وقلبه ينبض ..
آخر نظرة نظرتها له .. حيّاً .. وهو بهذه الحال المُريعة ..
حبيبي .. ودعته .. واستودعته .. الباري الرحيم ..
لأتركه بين المشرّحين .. والجرّاحين ..
وداعاً .. أبي ..
حكــــــاية الألــــــم ( 3)
خرجنا ونحن في حال لا يعلمها إلا الله ..
رجعنا لغرفته ..
وقلوبنا متوجهة بالدعاء بكل ما أوتيت من قوة ..
موقف صعب .. صعب ..
هل عشتموه معي ؟!!
كل ما ذكرته .. هي خيوطٌ قليلةٌ من مشاعري في هذه اللحظات ..
فقط ضعوا صورةً أمامكم ..
ارسموا فيها سريراً أبيضاً ..
وعدداً كبيراً من الأجهزة ..
وتخيلوا أعزّ عزيز لكم .. يعيش بينكم .. يأكل معكم .. يلاعبكم .. يوماً يعاتبكم ..
فوق هذا السرير ..
وبجانبه جهازٌ يخطط دقات القلب .. في شكلٍ مخيف ..
لن تستطيعوا تحمل خيال الموقف .. خياله فقط لن تتحملوه .. !!
كيف بنا وقد رأيناه واقعاً أمامنا ؟!!
لكن أبشركم .. أننا نحمد الله على ما حصل .. اطمئنوا ..
اختيار الله .. وقضاءٌ منه .. إذن نحن راضون .. ومسلّمون ..
لك الحمد ربي ..
... ...
عدنا أدراجنا إلى غرفته .. بقينا فيها قليلاً متأثرون مما حصل .. !
وخرج عاصم من المشفى .. ليتصدق عن أبي أملاً في شفائه ..
وبعد مدة من الدقائق اليسيرة .. هاتفتُ عمي أحمد أسأله عن حالة والدي .. هل تحسنت أم لا .. !
فقال : أنا في الحقيقة خرجت يا جمانة .. لا فائدة من جلوسي .. وضعه كما هو لم يتغير .. !
شكرته .. وأنا أدافع عبرتي ..
ثم .. قلت لأمي : لا فائدة نحن أيضاً من جلوسنا .. لنعد من حيث أتينا .. أنقى وأصفى للدعاء والتضرع ..
دارت أمي في الغرفة وهي تبكي بشدة .. فتحت دولاب الملابس .. وأخذت تضم شماغه وثوبه .. في بكاءٍ مُؤلم .. وأنا أُهدؤها وأقول : لا يلعب بك إبليس .. استعيذي من الشيطان يا يمه .. لم يزل حيّاً الله يشفيه ..
أمسكَتْ بنظارته وساعته .. وهي تنظر إلي وتقول : سآخذها .. سآخذها معي ..
أغلقتُ الدولاب لئلا تزيد في تفجعها ..
وخرجنا .. وكيانُنا غارقٌ في الألــم ..
ركبنا السيارة .. ونحن في الطريق .. فتحت أمي شنطتها .. وأخرجت منها غرضاً تريده ..
فسقطت ساعة الحبيب على مرتبة السيارة .. من غير أن تشعر أمي .. أخذتها بسرعة .. وأدخلتها في شنطتي .. !
وصلنا البيت .. في الساعة الثامنة وزيادة تقريباً ..استقبلننا أخواتي .. متلهفاتٍ لأي أمل .. أخبرتهن بأن حالة أبانا .. خطيرة .. وحثثتُهن على الدعاء .. فليس للمؤمن إلا الالتجاء لمولاه ..
الحمدلله ..
انفرد كلٌ منا في غرفته .. نبتهل ونتضرع .. للرحيم الحكيم .. وبين الفينة والأخرى .. يخرج أحدنا مستكشفاً أحوال الآخرين .. ومتنبئاً عن أي بشرى .. وصلته قبل غيره ..
ولا أعلم كيف استقبلت جدتي خبر حبيبها المفاجئ .. !
لكن الأكيد .. أنها قلبها تفطر .. في سكون ورضا ..
ليس للمؤمن إلا هذا .. وهو عظيم ..
الحمدلله ..
...
حالنا بين أمل .. وألم ..
ورجاء .. وخوف ..
أحادث نفسي وقتاً .. أريد بعث الأمل فيها .. فأقول : سيستيقظ والدي .. وسأخبره بكل ما جرى ..
سأحكي له وجلنا عليه ..
سأسرد له كل ما حصل ..
سأُعلمه بحجم حبنا له ..
سأفتح له قلبي ليرى عظيم خوفي عليه ..
أريد أن أجلس أمامه .. وأسكب له فنجان القهوة .. التي عملتها .. وحبكتها .. لأجله .. كما يحب ذلك مني ويطلبه دوماً ..
وأقطع له من الحلوى .. التي يعشقها .. ويستلذّ بأكلها ..
الحلوى التي كان يشتهيها حتى وهو في مرضه ..
لازلت أذكر حين كان طريح الفراش .. ويوم أن خفّ عليه بعضٌ من الألم .. فصاحت معدته بأنها فارغة لمدة يوم ..
دخلت علي رزان .. في غرفتي .. بعد العشاء .. وقالت : أبي يريد الحلا الذي يحبه ..
نزلتُ راكضةً مستبشرة .. وعملته له ..
وكنا إذا أردنا أن نصنع تلك الحلوى بعد ذلك نقول : الحلوى التي يحبها والدي .. فعُرف هذا الوصف عندنا جميعاً حتى عند عماتي ..
يبدو أني استطردت بعيداً .. المعذرة .. أحب أصغر ذكرى مع والدي حبيبي ..
ولا لوم علي .. ! هذا الوالد .. الحبيب .. الغالي .. العزيز ..
...
سأعود لصباح يوم الخميس الثاني من ربيع الثاني ..
بقينا على حال الخوف والوجل .. والتفاؤل والأمل ..
حين اقترب الظهر .. شعرتُ فيما بعد بأن أمي في هذا الوقت ودّعت والدي بقلبها .. وعلمَتْ بأن أجله قريب .. قريبٌ جداً ..
ارتفع أذان الظهر .. وارتفعت قلوبنا لخالقنا أكثر ..
صليتُ الظهر ..
ثم ..
أسندت رأسي قليلاً .. لآخذ بعضاً من الغفوة كما طلبت مني أمي .. لأني لم أنم لمدة يوم ونصف ..
فكانت تدخل علي باستمرار .. وتقول : نامي قليلاً حتى تَدْعي بنشاط أكثر ..
استسلمتُ لغفوتي اليسيرة .. وجلال الصلاة لازال علي ..
وفي الساعة الواحدة والنصف تقريباً ..
طُرق باب غرفتي .. فتنبهتُ مباشرة .. وإذ بعاصمٍ يدخل باندفاع ..
عظامي الآن ترجف بشدة ..
لم أعد أستطيع الكتابة ..
موقف صعب .. يا إخوتي صعب .. الحمدلله على كل حال ..
أعود ..
دخل عاصم .. ومباشرة قال عبارة .. لم أستوعب معناها في حياتي كما استوعبتها تلك اللحظة ..
لطالما ذكرتها مراراً وتكراراً .. من غير وعي لما أقول ..
ولن يستوعب قارئ كلامي هذا إلا من مرّ بمثل مصيبتي أو أشد ..
قال لي :
أحسن الله عزاك بالوالد ..
... ...
لم يُدرج لي الخبر كما درجه على أخواتي ..
وهو ما أشكره عليه ..
كأنه يقول لي : كما كانت طفولتنا رائعة معاً ..
سيكون شبابنا ممتعاً معاً ..
وقلوبنا متعاهدة على حمل المسؤولية معاً ..
... ...
إلى هذا الحد .. لا أستطيع الإكمال .. الرجفة خلعت كتفي ....
... ...
رحماك ربي بوالدي ووالدتي .. وبنا جميعاً ..
يارب لا تحرمنا من الاجتماع في فردوسك الأعلى ...
حكـــــاية الألـــــــم ( الجزء الأخير )
بالرغم من ضعف قوته التي وصل إليها في الساعات الأخيرة ..
وسَلْب الأمل الطبي في حياته ..
إلا أني تفاجأت؛ لأنّ الأمل كان يسبق الواقع .. !
غفر الله له ..
تقدم عاصم إلي وقال : استرجعي .. احمدي الله .. أمي تحتاج لمن يُصبرها ..
لا تتخاذلوا ؛ لأجلها ..
قمنا جميعاً لها .. وحين دخلت غرفتها .. وجدتها جالسةً على طرف السرير ..
أول ما رأتني فتحت ذراعيها نحوي .. فانطلقتُ لأدفن نفسي .. في النصف المُزهر الذي بقي لنا .. !
لم أشأ فكّ ضمها الحاني ..
وقلبي يقول : اهدئي يا أمي .. والدي ذهب .. لكن روحك الطيبة بقيت .. يا الله لك الحمد كله ..
بكينا جميعاً .. ذكرتها بالحمد والاسترجاع .. وثواب المصيبة .. وكأني لست معنيةً بهذا أيضاً .. !!
كانت تقربني نحوها أكثر .. وتقول : لا تبتعدي .. ابقي بجواري .. !
ذهب عاصم يخبر باقي أخواتي ..
لا أعلم كيف استقبلن الخبر .. لكن دخلت علينا رزان وهي تبكي بصوت مرتفع .. ثم أتتنا رند وعليها عباءتها وقد انتهت للتوّ من صلاتها .. وبكاؤها كعادتها مكتوماً مُحرقاً ..
وريم بيننا ويبدو بأنها لم تستوعب الموقف جيداً .. دعتها أمي وقالت : ريم .. أبوك ذهب للجنة وسنلحقه بإذن الله .. هزت رأسها إيحاءً بفهمها .. ولا نعلم ما الذي يدور وسط عقلها الصغير .. !
ضمتهن أمي .. ونحن جميعاً في بكاءٍ مُوجع.. وشريط ذكرياتنا معه مرّ سريعاً .. كأنه يودعنا هو الآخر ..
!
بقينا بعضاً من الدقائق على هذه الحال ..
كلٌ يرى ألمه في عين الآخر .. !
حتى أمرتنا أمي بالصلاة .. وذكرتنا بقول الله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة ..
قام كلٌ منا إلى غرفته .. ثم ..
علمتُ بأن جدتي وعماتي قد أتين ..
نزلتُ ودخلتُ عليهن .. أول ما رأتني جدتي : زادت في بكائها وهي تترحم عليه وعلينا ..
ضممتُها بقوةٍ .. وأنا أشم رائحة حبيبي بحضنها .. وأراه بعينيها ..
هي جدتي .. أم والدي .. ثُكلت بابنها وقرة عينها .. كما ثُكلت أمي بالحنون زوجها ..
وكما كُلِمنا نحن بالرحيم أبينا ..
ثم حضنتُ باقي عماتي .. وخالة والدي أسعده الله .. والجميع في تأثر بالغ .. !
نزلت أخواتي .. والمشهد نفسه تكرر ..
قمتُ إلى الصالة .. فقابلتني الخادمة .. ألقيتُ بنفسي عليها .. وأنا أبكي .. وهي تبكي أكثر .. وتقول : صبر صبر .. !
الحمد لله على كل حال ..
ثم نزلت أمي وليست بأهون منا .. المشهد تكرر نفسه مرة أخرى .. وربما أشد ..
لحظاتٌ مُوجعة .. هذا فراقٌ للحبيب الغالي ..
رحمه الله رحمةً واسعة ..
لبسنا عباءاتنا نريد رؤية الغالي قبل أن يُدخل الثلاجة ..
وقبل خروجنا .. دخل علينا أعمامي : محمد وأحمد وعمر ..
تأثرهم كان بالغاً .. رحمه الله كان غاليًا على الجميع ..
سلموا علينا بحرارة مهدئة .. وقلوبنا تقطعت من البكاء ..
وخرجنا .. للمشفى ..
لنرى .. جثمان والدي فقط .. بلا روح .. !
لنقبله قُبل الوداع ..
لنُوقن بأن الموت حق .. والله حق .. جل وعز سبحانه ..
وصلتُ وأمي وعاصم وجدتي ورزان وخالتي نورة (شقيقة جدتي ) ..
مشينا خطوات أشعر وكأنها دهراً ..
وصلنا قسم العناية المركزة ..
دخلناه ..
استقبلنا باقي أعمامي الذين لم نرهم في بيتنا ..
ثم ..
دخلنا على .. والــدي .. حبيبي ..
وسأقف عند هذا الموقف وقفاتٍ طويلة ..
...
رأيناه مسجّى على السرير الأبيض ..
وجهاز القلب لم يُفصل عنه بعد ..
لأرى خلاف ما رأيته في المرة الأولى ..
تخطيط دقاتِ القلب .. يظهرها مستويةً مستقيمة، كما كانت حياته مستقيمة ..
وللجهاز رنينٍ متواصل .. لتُؤكد للجميع ..
بأن القلب الطاهر ..
قد فارق الحياة ..
وودّع النبض ..
انكببنا عليه جميعاً تقبيلاً .. وضماً ..
كنت أقول في نفسي وأنا أقبل وجهه المُشرق : لا يعلم بك الآن يا جمانة .. هو جسد بلا روح ..
انظري .. لم يبتسم لك كعادته حين تقبلين وجهه ورأسه ويده ..
قبّلي كما تشائين .. واحضُني كما تشائين .. لكن اعلمي أنه لا يعلم بهذا كله ..
لن يقول لك كعادته حين تقبلين يده :
الله يكرمك يا بنيتي ..
لن تسمعي منه دعاء وداعه الدائم :
الله يحفظك يا بنيتي ..
أدور حوله وأنا لا أكاد أصدق هول الموقف ..
أيُعقل أنني الآن بلا أب .. !!
هل هو ميّت الآن ؟!!
لن يكون في عداد الأحياء ؟!!
فقدت أبي .. كما فقد هو أباه .. !!
أبي أتسمع ؟ .. أصبحت مثلك يا حبيبي بلا أب .. !
كنتَ دوماً تغبطنا وتقول : يا لهنائكم أبوكم بين أيديكم .. تتمتعون برؤيته ..
وتأنسون بجلسته ..
باب بره في الحياة لم يُقطع عنكم .. !
أما أنا .. فلا .. !
لم أنس يا والدي .. وقبل وداعك بأسبوعين بالتمام ..
حين كنتُ وإياك وريم في فناء بيتنا ..
نرتب أغراض سفرك ..
وكانت ريم تُنشد بين يديك .. وتتمايل حولك ..
وأنت تهز رأسك باهتمام لها ..
وابتسامتك أضاءت وجهك ..
كعادتك تُشجع كل شيء يصدر منا ..
وكلما أنهت أنشودتها طلبتَ منها إعادتها ..
أذكر أن بدايتها تقول :
( أقول لماما صباح الخير ..
أقول لبابا يا نور العين .. )
فقلتَ لها : أتحبين أباك بهذا القدر ؟!!
قالت : إيه .. أحبك (قدّ) الدنيا ..
فرددتَ عليها : يا لسعدك عندك أبٌ تُنشدين له .. أنا ما عندي أبٌ أُنشد له .. !!
لم تكن تعلم يا أبي .. أنها ونحن جميعاً سنكون بعد أسبوعين مثلك بلا أب .. !
لم نكن نعلم أن القدر الذي أصابك وأنت في رُشدك .. سيُصيبنا ونحن في شبابنا وطفولتنا ..
لكن نحمد الله أن قلوبنا مليئة باليقين .. والحمد .. والرضا ..
فلله الحمد كله .. والثناء كله .. والأمر كله ..
وهو الرحيم الحكيم سبحانه ..
...
وسط هذه اللحظات كانت جدتي مفجوعة بفلذة كبدها ..
أراها .. تقبله .. وتشمه .. وبكل حنان تضمه ..
ولدها .. خرج منها .. أرضعته من حليبها ..
ربته وجدي المرحوم بجميل خلقهما ..
عاش ستةً وأربعين عامًا .. وستة أشهر .. بين أحضانها ..
وها هي الآن تلمسه بيدها .. اللمسة الأخيرة .. !
هكذا الحياة ..
...
وأمي تفعل الفعل ذاته ..
وتدور حوله .. في ضيق حيلة .. وذهول ..
أقصى شيء يستطيعه الواقف في هذا الموقف ..
إيهِ .. يا دنيا ..
... ...
كانت أمارات حسن الخاتمة ظاهرةً جليةً عليه .. رأسه مائلٌ لليمين .. مع أنهم كانوا قد أمالوه لليسار حين كانت الأجهزة عليه ..
لكن فور رفعها عنه .. مال لليمين .. !
وجهه مُضيء .. وجلده مُنشدّ ..
أسنانه ظاهره .. في ابتسامةٍ خفيفة ..
يده اليمنى رافعةٌ للسبابة ..
وعظامه لينة .. كأنه نائم .. وفي راحة تامة ..
ألا يحق لي الصبر ؟!
بل والفخر ؟!!
وأشد من ذلك الفرح ؟!!
جمعنا الله به في جنان الفردوس الأعلى من الجنة ..
استبشرنا كثيراً لهذه الخاتمة الحسنة .. وهذا من أعظم ما يعزينا بفقده ..
... ...
عدنا أدراجنا .. لنتركه في المشفى ..
يُقلبونه بأيديهم .. ويُدخلونه ثلاجتهم .. بلا حول ولا قوة له .. !
شيعنا أعمامي .. عند خروجنا ..
ولا زلت أذكر قبضة يمين عمي يوسف على يدي اليسرى ..
وهو يصبرني .. ويذكُر خيراً كثيراً مُفرحاً عن والدي رحمه الله ..
ويبشرني بأن الأطباء أخبروه بأن والدي قبل أن ينام نومته الأخيرة ..
نطـــق الشهــادة .. لك اللهم الحمد كله ..
وخالتي نورة .. عن يميني .. تقوم بدورها هي الأخرى ..
كأني بكم ترونه موقفاً بسيطاً لا يحتمل الذكر ..
لكنه في نفسي عظيم .. وكبير ..
لم أنسه .. أثّر فيّ كثيراً ..!
... ...
استقبلنا بعضاً من المعزين المُهدئين ذلك اليوم ..
وانتهى يومنا .. وأُغلق ..
ليُسجل لنا أول يوم في حياتنا نقضيه فاقدين أبانا .. مُصابين بأغلى روح عاشت بيننا ..
... ...
وفي صباح الغد .. يوم الجمعة الثالث من ربيع الثاني ..
ذهبتُ وأمي ورزان وعاصم إلى المغسلة ..
لنودع الحبيب .. الوداع الأخير ..
لنراه الرؤية الأخيرة ..
ولنعلن شوقنا إلى الاجتماع به في فردوسٍ أُعدت للصالحين ..
وكان بيدي مشلحه البني ..
الذي زُين به جثمانه ..
وسيُزينه الله عز وجل بأفضل منه في جنانه ..
بإذنه سبحانه ..
... ...
أحضروه لنا ..
على سريرٍ وقد لُفّ جسمه بغطاءٍ أبيض ..
الكفن الذي ينتظر كل مؤمنٍ في هذه الحياة ..
قبلنا وجهه الطاهر .. ورائحة العود والسدر تفوح منه ..
عظامه ما زالت ليّنه ..
وجرح بطنه كما يقول مغسلوه .. أنه لم يتوقف عن النزف حتى تكفينه ..
اللهم لك الحمد ..
بإذن الله نحسبه شهيداً ..
مات مبطوناً .. واستمر النزف .. وهذه بشرى عظيمة ..
أسأل الله تعالى أن يتقبله من الشهداء الصادقين ..
ويجمعنا به مع النبيين والصالحين ..
... ...
مشهد جنازته عظيم كما وُصف لنا ..
حضره الكثير ..
واعتذر الكثير لتقلب الأجواء ..
فلله الحمد أولاً وآخراً ..
صلينا عليه صلاة الميت ..
أربعُ تسليماتٍ بينهن دعاءٌ وابتهال ..
لقبوله .. وتثبيته عند السؤال ..
وعدنا .. ليحمله الرجال إلى بيت المسلمين السفلي ..
وليبدأ عالم البرزخ الغيبي ..
راجين أن يكون في روضة من روضات الجنان الخالدة ..
ولتنتهي بذلك حكاية الألم .. وقصة الفقد ..
للوالد المربي .. الحبيب الغالي ..
من رفع أرؤس أولاده وزوجه ووالديه وأهله .. حيّاً وميّتاً ..
رفع الله رأسه وأمّنه يوم الفزع الأكبر ..
وغفر ذنبه .. وأجزل أجره ..
وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة ..
... ...
وليبقى لنا النصف الآخر .. أمي الغالية .. حبيبتنا الكريمة ..
منةُ الله تعالى علينا في هذه الحياة .. وفي هذا المصاب ..
صبرَت وثبتت .. طمعاً في الثواب الجزيل ..
والفضل الجليل ..
وتماسكَت وابتسمت .. لتُدخل السرور على قلوبنا ..
وتملأ بالفرح أفئدتنا ..
همومنا في ضيقها .. وكدرنا في حزنها ..
وسعادتنا في ضحكها ..
رحمنا الله .. واختار إلى جواره روحاً واحدة .. وتفضل علينا بالأخرى ..
لتحتوينا بقلبها .. وتضمنا بذراعيها .. وتدفئنا براحتيها ..
... ...
شُكراً بحجم الخلْق العظيم لك إلهي .. أن رزقتنا هذا القلب الحنون ..
وهذه الأم العظيمة ..
ولتهنئي يا حبيبتنا الفريدة ..
أنت الآن ملكة بلا منافس ..
عرشك متكئ على رؤوسنا .. نحمله أين كنا ..
لم يعد لنا هم سواك ..
وعداً مني وإخوتي .. بالبر والرضا..
والشكر والوفاء ..
ما دامت رؤوسنا تشم الهواء ..
أطال الله في عمرك المثمر ..
بالطاعة والعبادة ..
وأبقاك لنا سعيدة رضية ..
مبتسمة هنية ..
...
ولجدتي الغالية العزيزة .. وعدٌ بذلك أيضاً ..
أخذ الله منا حياة والدنا .. وأكرمنا بأمه التي أنجبته ..
والدتي حبيبتي ..
ها هي نفوسنا غارقة بالود لك ..
أنت وجدي المرحوم من ربى والدنا العظيم ..
أنتما من أنبته النبات الحسن ..
حتى أثمر ثمراً يانعاً طيباً ..
حسنةٌ محمودةٌ منكما .. حين أنجبتما هذا النسل المبارك ..
رأينا من والدنا اهتمامه الكبير بكما ..
وحثنا على صلتكما ..
وبهذا المثل سنقتدي ..
ليكون أحفادك الخمسة .. عوضاً خيّراً لابنك المحبوب ..
وافخري يا حبيبتي .. ببيت حمدٍ بُني لصبرٍ على فراق فقيدك .. وفقيد الجميع ..
...
سنلتقي جميعاً .. بصاحب هذا الألم .. ومن كُلم به .. وكتب عنه .. وقرأ ما كُتب ..
بجنات الفردوس الأعلى من الجنة ..
إذا أحسنّا العمل ..
وأخلصنا الدعاء ..
ـــــــــــــــ
ابنة الفقيد قدس الله روحه
ونور ضريحه /
جمـانة
الثلاثاء
13/5/1431هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــ
....
وبهذا يا إخوتي أكون قد عرضت لكم .. بعضاً من مشاعري المكلومة ..
لأُشرككم .. وبدعوة طيبة نحظى منكم ..
...
ثم إنني سأبقى هنا .. بضعاً من الوقت ..
لأستنير برأيكم ..
وأقوّم خطئي بتصحيحكم ..
...
تقبلوا تحياتي ..
وعظيم امتناني ..السلام ع ـليكم ورح ـمة الله وبركآته